على النقيض من التحليلات الكثيرة التي ذهبت إلى أن الحركات السياسية كانت اللاعب الرئيس في تحريك الشارع المصري باتجاه ثورة 25 يناير 2011، يذهب زكاري ستينرت ثريلكيلد Zachary Steinert-Threlkeld، الأستاذ المساعد في السياسة العامة بكلية لوسكين للشؤون العامة بجامعة كاليفورنيا، في دراسة نشرتها مجلة العلوم السياسية الأمريكية، إلى أن "الأفراد غير المحوريين (العاديين) قد يكونون أكثر قدرةً على توليد العمل الجماعي والاحتجاجات من أولئك الموجودين في مركز الحركات السياسية ومجتمع النخبة في العالم العربي"، مشددًا في نظريته على "قدرة الأطراف على تعبئة العمل الجماعي العفوي".

توضح الدراسة أن "التحركات الفردية والعفوية أقدر على تنظيم الاحتجاجات ونشرها وانتقالها من شخص إلى آخر بما يشبه العدوى"، وهو ما أكدته احتجاجات الربيع العربي التي بدأت في أواخر 2010.

وانتشرت التظاهرات والاحتجاجات الشعبية من شمال أفريقيا إلى الشرق الأوسط في أواخر عام 2010، وأثارت الكثير من الجدل، خاصة تلك التي اندلعت في مصر، وشهدت احتشاد الملايين في ميدان التحرير، وأدت في النهاية إلى الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك بعد 3 عقود من حكمه مصر.

اعتمد ثريلكيلد في نظريته على تتبع وتحليل 13 مليونًا و988 ألفًا و758 تغريدة في 16 بلدًا بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي خلال 14 شهرًا بين عامي 2010 و2011، وتعلقت جميعها بالربيع العربي.

يقول ثريلكيلد لـ"للعلم": "لقد تمكنت عبر تحليل التغريدات والتدوينات على مواقع مثل تويتر وفيسبوك من أن أستخلص نظرية حول قدرة الأشخاص العاديين على تعبئة العمل الجماعي العفوي"، مشددًا على أن الشعب المصري حاول لسنوات خلق مثل هذه الحركة الاحتجاجية، ولم ينجح هذا الأمر إلا من خلال أفراد عاديين، امتلكوا القدرة على السيطرة والتأثير من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وكانوا في تنظيم العمل الجماعي والقيادة أكثر فاعلية من أولئك الذين يعملون في الحقل السياسي، مثل "الجبهة الوطنية للتغيير" و"الإخوان المسلمين" و"حركة 6 إبريل" و"كفاية".

ويضيف أن "تحليل البيانات الضخمة، والتي كان مصدرها التغريدات، أدى دورًا أساسيًّا في الكشف عن أهمية الدور الذي قام به الأشخاص العاديون في تحريك الاحتجاجات". ويوضح: "كشف التحليل الخاص بالبيانات التي جرى جمعها أن الاحتجاجات جاءت نتيجةً لتنسيق لامركزي بين الأفراد"، ويستطرد: هذا التنسيق يفسر لنا التقلبات في مستويات الاحتجاج، إذ انتشرت التغريدات ونقل الأخبار وقت ثورات الربيع العربي كما لو كانت عدوى مرضية، ويكفي أن يصاب بها مصري أو تونسي واحد حتى تنتقل من شخص إلى آخر على نحو سريع وواسع النطاق. يشدد ثريلكيلد على أن هذا الانتشار يتم أيضًا بشكل سهل، وهو أمر يخالف معظم التقديرات التي تؤكد صعوبة التحريض على الاحتجاجات ونشرها إلى أكبر عدد من الناس. يقول: لو قال لك شخصٌ ما أنا ذاهب للاحتجاج غدًا، فستجد أن مجموعات كبيرة من الناس بدأوا يناقشون التغريدة، وطرح أسئلة من نوع: إلى أين ستتوجه؟ وكيف يمكن الوصول إلى مكان الاحتجاج؟ ومتى ستبدأ؟ وهو ما حدث في مصر في 2011.

تُظهر التغريدات ما كان يقال، وأين كانت تتم الاتصالات، كما تُظهر عدد تلك الاتصالات بين المجموعات، كما تظهر التعبئة الجماعية التي تحدث من خلال الأفراد العاديين الموجودين على الأطراف، وليس النخبة، فمن خلال المناقشات بين الأفراد على فيسبوك، بدأت تتفاعل حركة الاحتجاج والمظاهرات، وجاءت احتجاجات 25 يناير في مصر لتفاجئ الجميع، الناشطين والمارة وسلطات الدولة، وكانت النتيجة تجمُّع حشود كبيرة سيطرت سريعًا على ميدان التحرير، حتى إن العديد من قادة الإخوان المسلمين سُجنوا بشكل عاجل، لا لشيء سوى لأن نظام مبارك كان يفترض أن بوسعهم تحريك تلك الحشود"، وفق ثريلكيلد.

عدوى الاحتجاج

وخلافًا للنماذج البسيطة مثل عدوى الأمراض أو تداول الأخبار، التي تحتاج إلى تعرُّض واحد فقط للإصابة أو إبلاغ الفرد لفرد ما أو مجموعة أفراد أخرين، فإن انتشار الاحتجاجات "أكثر تعقيدًا"، ما يجعل منها أمرًا غير مؤكد الحدوث.

يقول ستينرت-ثريلكيلد: "إن الاحتجاجات ظاهرة عدوى معقدة؛ لأن المشاركة المتزايدة تجعل الآخرين أكثر قابلية للانضمام"، مشيرًا إلى أنه عندما يكون الأفراد الداعون للاحتجاج موجودين في الأطراف أكثر من أولئك الموجودين في قلب الشبكة (في إشارة إلى التنظيمات والحركات السياسية)، فمن المرجح أن يحدث الاحتجاج حيثما تكون أكبر المجموعات عددًا. ويشدد على أنه "يبدو أن قرار المشاركة في مظاهرة يحركه أكثر، أشخاص عاديون، يتلقون إشارات موثوقة من بعضهم البعض وليس من النُّخَب".

ويرى ثريلكيلد أنه "كلما زاد عدد المشاركين في المظاهرات، يصبح من السهل انضمام أعداد أخرى إليهم، ويبدو أن النجاح في حشد الجموع لا يتطلب سوى أن يقرر شخص عادي المشاركة في مظاهرة ما، بعدها يستقبل أشخاص مثله الإشارة، فيما لن تجد تأثيرًا للنخب في مثل هذا الحشد والتفاعل"، مشيرًا إلى أن "البيانات الضخمة" Big Data التي يتم الحصول عليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتيح للباحثين عدة أمور رئيسية هي:

*متابعة توجهات عدد كبير من المغردين على فترات طويلة.

*تتبع توجهات المغردين عبر فترات زمنية ضيقة.

*تعكس هذه البيانات كيفية تغير الأنماط المزاجية لدى المغردين مع مرور الوقت.

*يمكن أن تعطي هذه التغريدات صورة للرأي العام تجاه الأحداث المثيرة للجدل.

والبيانات الضخمة، كلمتان بسيطتان، لكنها ذات تأثير كبير في العديد من المجالات المختلفة والمتنوعة، فبالإضافة إلى رصد الظواهر المجتمعية مثل ظواهر الاحتجاح والتجمع البشرية، تحظى تطبيقاتها باهتمام بالغ في التخصصات العلمية ومجالات التنمية أيضًا. وقد خصصت هيئات التمويل ـمثل المؤسسة الوطنية للعلوم، والمعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدةـ ملايين الدولارات لبرامج ومبادرات، تهدف إلى التغلب على تحديات تخزين كميات ضخمة من البيانات واسترجاعها بغرض تحليلها للاستفادة منها.

التوجيه عن بعد

يوضح المهندس مالك صبري -الباحث المتخصص في البرمجيات وإدارة قواعد البيانات- لـ"للعلم"، أن "البيانات الضخمة يمكن تعريفها بأنها عملية جمع وتحليل واستخدام كميات هائلة من البيانات، تتزايد كل ثانية نظرًا لحجم المستخدمين الضخم الموجود حاليًّا على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي تعدى حاجز 1.2 مليار مستخدم"، مشيرًا إلى أنه "لا يمكن التعويل بنسبة 100% على أي برنامج يتعلق بتحليل البيانات الضخمة؛ لأن أي برنامج يتم تصميمه باستخدام كود رقمي معين، ويعد برنامج أودو “ODOO” أحد أشهر البرامج التي تُستخدم في تحليل البيانات الضخمة، فهو برنامج يتميز باحتوائه على عدد كبير جدًّا من النظم الفرعية المتكاملة، والتي تمتد من 400 نظام مدمج إلى حوالي 4000 نظام فرعي في حوالي 120 دولة حول العالم".

ويقول محمد عبد الله -الباحث المتخصص في شؤون التحقيقات الاستقصائية بقسم الإعلام بكلية الآداب بجامعة أسيوط‏- لـ"للعلم": إنه "لا يمكن الاعتماد بصورة كبيرة على البيانات الضخمة كنظرية مسلم بها لا تقبل التشكيك"، موضحًا أن السلوك البشري لا يخضع لقواعد ومعطيات ثابتة، فقد تتغير الحالة المزاجية للمغرد بين الحين والآخر، فالسلوك البشري ليس مستقرًّا بالدرجة الكافية، لذلك قد لا تكون النتائج صحيحة، ولا يمكن الوثوق بها. ويضيف: كما أن بعض الأجهزة الأمنية والاستخباراتية أو شبكات أصحاب المصالح قد تتدخل لتوجيه الرأي العام عن بُعد باتجاه معين على حساب اتجاه آخر، فضلاً عن أن عملية جمع المعلومات قد تصل إلى انتهاك خصوصيات المغردين.

ظاهرة عابرة للحدود

تقول عبير سعدي -عضو مجلس إدارة الاتحاد الدولي للصحفيات، والحاصلة على درجة الماجستير في الإعلام من جامعة "وستمنستر" البريطانية في "إستراتيجية داعش الإعلامية"- لـ"للعلم": "إن تحليل البيانات الضخمة خطوة جيدة جدًّا على طريق البحث العلمي، بشرط ألا تصل إلى مرحلة الرقابة على البيانات، خاصة أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تمثل ظاهرة عالمية مهمة؛ لكونها عابرة للحدود الجغرافية والإنسانية والفكرية، وهذا شيء جيد".

وتضيف: كما أنها تمثل أيضًا نقطة التقاء لمجموعات من البشر بعيدًا عما يُعرف بمركزية العاصمة أو مركزية عواصم المحافظات، بحيث يتم تجميع أفكار ومشاريع وطموحات الأفراد الموجودين على الأطراف وترجمتها على أرض الواقع، وهو ما تجسد بوضوح في الاحتجاجات والانتفاضات التي قامت بها شرائح الطبقات الوسطى والدنيا ممن كانت لديهم معرفة بوسائل التواصل الاجتماعي".

ولكنها، في الوقت ذاته، تحذر من إساءة استخدام هذه البيانات، وبخاصة للأغراض الإرهابية، إذ تشدد على أن "تنظيمًا مثل داعش استفاد بشدة من تحليل البيانات الضخمة في تحقيق العديد من أهدافه، مثل عمليات التجنيد، وبث رسائل للمتعاطفين معه، واستخدام وسائل تواصل تختلف في محتواها تبعًا للفئات المستهدفة، سواء كانت في الشرق أو الغرب".